يحوي كتاب "الإخوان المسلمون: سنوات ما قبل الثورة" للباحث الراحل حسام تمام (دار الشروق 2012)، مجموعة من الدراسات المتعلقة بجماعة الإخوان المسلمين المصرية وتحولاتها السياسة والاجتماعية قبيل ثورة يناير، ولا تُعنى هذه الدراسات التي تمثل خلاصة فكر حسام تمام ورؤيته في النظر إلى الحركة الإسلامية والإسلام السياسي، لا تعنى بتطور العلاقة بين الإخوان والنظام المصري خاصة في الفترة (2005-2011) والتي تشكل المرحلة الأخيرة لنظام مبارك، بل تهدف إلى رصد وتحليل تفاعلات الجماعة الداخلية والتحولات التي لحقت بها تنظيمياً وأيديولوجياً وتكوينياً، وتصلح النتائج التي خرج بها تمام من مجموع هذه الدراسات والمقالات التي تعكس بصيرته البحثية النافذة لأن تقدم لنا إطاًرا لفهم سلوك الجماعة السياسي في مرحلة ما بعد الثورة والتي انتهت بدخول الجماعة مؤسسات الدولة وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة، ويبقى السؤال الهام الذي نحاول الإجابة عليه: هل ستنعكس هذه التحولات السياسية، وهي بمثابة انتصارات مدوية للجماعة في شكل تحولات بنيوية في داخلها، ربما سيساعدنا الإطار الذي قدمه تمام في كتابه ودراساته على الإجابة على هذا السؤال، ويجدر بالذكر أن منهج تمام في في هذه الدراسات يدمج بين التناول التاريخاني الذي يضع تطورات الظاهرة ضمن مسار تطورها التاريخي، والطرح السوسيولوجي الذي يهتم برصد الظاهرة في سياق تحولاتها الاجتماعية وعلاقتها بالمجتمع الذي تنمو من خلاله، وهو مغاير للاتجاه العام في دراسات الحركة الإسلامية المهتمة بالنصوصية، أي قراءة الحركات من خلال النصوص المعبرة عنها، أو تلك التي تهتم برصد التدافع والصراع بين هذه الحركات والدول، وأغلبها أعمال صحافية تتنازعها التحيزات السياسية.
الإخوان والإصلاح
تبدأ الورقة الأولى في الكتاب في تناول موقف الإخوان المسلمين من قضية الإصلاح الداخلي الذي كان عنوان الحالة السياسية في مصر في الفترة (2004-2007)، وفيها شهدت مصر ربيع الحركة السياسية التي تواكبت مع انفتاح النظام السياسي نحو الإصلاح بفعل ضغوط البيئة الدولية، وهو المناخ الذي شهد التيار الإصلاحي داخل الجماعة والذي قادها نحو التفاعل الإيجابي مع الانفراج الداخلي والضغط الخارجي، وهو ما أدى إلى مشاركتها بفاعلية في الانتخابات التشريعية للعام 2005 وحصولها على ربع مقاعد البرلمان، وقد أدى هذا إلى تصاعد أجواء الإصلاح داخل الجماعة نفسها الأمر الذي يملك أمامه التيار المحافظ إلا الرضوخ ما دام هذا لا يمس البنية الداخلية للجماعة التي يتحكم فيها، ومادام خطاب الإصلاح موجهاً للخارج، أي لبقية الأطراف السياسية والنظام والخارج الدولي، غير أن نكوص ربيع القاهرة، وانقلاب النظام وانحسار الضغوطات الخارجية عليه، أدى إلى نكوص داخل الجماعة نفسها، خاصة مع الضربات التي أخذ النظام يوجهها للجماعة وبدأت بإقصائها تشريعياً من خلال تعديلات 2007، ثم بتوجيه ضربات لها استهدفت قياداتها ومفاصلها عامي 2008، و2010، كل هذا أوحى بعزم النظام بعدم التحاور مع أي طرف واعتزامه عزل الجماعة دون استئصالها، وهو ما أدى إلى تزايد قوة التيار التنظيمي الذي أخذ في ممارسة حملة ممنهجة لنزع الشرعية عن كل الأفكار الإصلاحية التي تم بناؤها خلال النزول السياسي والإعلامي للإخوان إلى ساحة العمل العام، وانعكس هذا في صياغة برنامج الجماعة السياسي الذي تم تقديمه في 2007، وأثبت هيمنة هذا التيار على مفاصل البرنامج، غير أن النظام أفاد من هذا الانغلاق حيث أعطاه فرصة لضرب مزيد من العزلة حولها والتعامل معها داخليا وخارجياً باعتبارها تهديداً للمجال العام، ويرى تمام أن هذه الهيمنة المحافظة التي تتقاطع معها النزعتان السلفية والقطبية لم تظهر إلا في مزيد من الانغلاق التنظيمي دون أن ينال هذا من الخيارات الاستراتيجية التي رسمت مسار العمل العام للجماعة منذ إعادة تأسيسها في السبعينات وهو يقصد بهذه الخيارات تحديداً عدم ممارستها للعنف، وقبولها بالمشاركة السياسية السلمية المتدرجة داخل إطار الدولة.
ويستخلص تمام في هذه الدراسة أن علاقة الجماعة بقضية الإصلاح إنما هي رهينة للتدافع بين الجناحين المحافظ والإصلاحي داخل الحركة وهو الذي يحدد رؤيتها لمجريات الأمور على الساحة المصرية. وهو يتناول في الدراسة الثانية في الكتاب التي أصدرها على أثر الخلاف الذي واكب انتخابات مجلس شورى الجماعة في ديسمبر 2009 الأصول التاريخية لتكون هذين التيارين منذ تأسيس الجماعة حتى الأزمة المذكورة عامذاك. تجادل هذه الورقة بأن الجماعة هي الأقل بين الفواعل السياسية المصرية انشقاًقا، ورغم أن الأدبيات الإخوانية الدعائية تتحدث عن بعدٍ رباني ورسالي في هذا التماسك، غير أن تمام يبحث أسباًبا أخرى لهذا التماسك. والجماعة كغيرها من التنظيمات تعمل في إطار نظام سياسي بالمفهوم الواسع له وتتأثر بدواره من حيث الانفتاح والانغلاق، أي بقدرته على الاستيعاب والفاعل الإيجابي أو باتجاهه نحو الاضطهاد والتضييق، وثم إن الإخوان يضمون داخلهم أطيافاً فكرية وجيلية شاسعة يربط بينها حد أدنى من الأيديولوجية الإخوانية والأهم من هذا رابط تنظيمي قوي، ومع تآكل أيديولوجيا الجماعة اختصر مشروعها في التنظيم وفي دعمه والسعي نحو توسيعه ليسع المجتمع ويتغلغل في الدولة.
بدأ حسن البنا ببناء الجماعة التي اتخذت شكل نسق مفتوح أي حركة اجتماعية ودعوية منفتحة على المجتمع، ثم ما لبث أن ظهر لها تنظيم خاص مغلق وسري، وأودى صدامها بالدولة في عهدي الملكية ونظام يوليو إلى سحب الشرعية من الجماعة ثم السعي نحو استئصالها، وبالتالي لم يبق من الدعوة الأولى إلى التنظيم الصلب بعد أن نجح نظام يوليو في استيعاب المكون السياسي الحركي والدعوي لها في مشروعه الوطني العام، ولم يلبث التنظيم المغلق إلا أن وجد في أطروحات سيد قطب إلا جهازاً تبريريّاً مثل الدافع له للحركة تحت شعار الجيل القرآني الفريد، يقول تمام إن القطبية ميزة بنوية في الإسلام السياسي وبصورة ما استعادة لخطاب حسن البنا وذلك لاستهدافها إعادة إحياء إيمان المجتمع وإقامة الدولة الإسلامية، ثم إنها تقدم إطاراً شموليّاً يستوعب الفرد بكافة جوانب حياته ويربطه بالجماعة التي تتحول بهذا إلى طائفة، وعلى أثر أحداث 1965، عانت الجماعة انشقاقاً فكريّاً وتنظيمياً وهي حبيسة المعتقلات، خاصة مع تبرؤ قيادتها من أطروحات سيد قطب، ومع هذا تركت هذه الأطروحة أثرها على قطاع عريض من الجماعة الذي لم يقبل بها كلياً غير أنه أخذ يستبطنها في في الإعلاء من شأن الثقافة التنظيمية وتغليب مبدأ السمع والطاعة والجندية، وهو بهذا راكم خبرة التنظيم الخاص وخبرة المحنة القطبية. وفي السبعينيات، بدأ التكوين الثاني للجماعة وضخت دماء جديدة في تكوينها باستيعابها التيار الأوسع في الحركة الطلابية المنضوية تحت الجماعة الإسلامية، ورغم انفتاح النظام الساداتي، اختارت الجماعة العمل الدعوي وراحت شيئاً فشيئاً تستعيد وحدتها من خلال الدعوة، وقد تولت قيادات النظام الخاص التاريخية مهمة إعادة التكوين وبالتالي هيمنت أيديولوجية التنظيم ذات الروح القطبية على مفاصل الجماعة، رغم احتوائها على تيار إصلاحي. وفي الثمانينيات تحددت استراتيجية الإخوان بالمشاركة في النظام السياسي وفي إطار الدولة، وشهدت الثمانينيات والتسعينيات صعود الجماعة وامتدادها، ولم تؤثر الانشقاقات البسيطة على بنيتها، بل ظلت الأقل انشقاقاً والأكثر تماسكاً.
يفسر تمام هذه الحالة بعدة أسباب، أهمها مركزية العمل الجماعي ووحدة التنظيم وقوة التأسيس الديني والفكري لهذه الفكرة، حيث دائماً ما يتم استدعاء تراث ديني كامل يحض على الوحدة وعدم الفرقة، وتراث أخواني خاص يأثم الخارجين عليها ويرى فيهم خبثاً أولى بالجماعة أن تطرده، كما أن الجماعة باتساع التيارات الفكرية داخلها وتأرجها بين السلفية المتشددة إلى الليبرالية المتدينة تضمن مرونة فكرية تمنع المنضوين تحتها من الخروج، ويبقى أن التنظيم القوي الصارم الذي يسيطر عليه تيار واحد لا يتعرض للخلخلة والاهتزاز جراء النزاعات الفكرية. والأخطر من هذا هو الطبيعة الشمولية للجماعة التي تستوعب حياة أفرادها ويجد الأخ فيها نفسها وقد غزته الجماعة، "فهو يعيش ويتعلم ويصادق ويتزوج ويجد فرصة للعمل وينشط سياسياً ودعوياً في فضاء إخواني كامل" وهو بهذا يرى العالم من ثقب الجماعة التي دائماً ما تصور باعتبارها حاملة المظلومية الإسلامية التاريخية وهو ما يستدعي التماسك والتلاحم وتهميش الخلافات، ويبقى أن أكثر ما كان يحافظ على تماسك الجماعة هو سياسات النظام الذي كان حريصاً على إبقاء الجماعة كما هي، من قبيل المحافظة على تضخيم الخصم، وعدم الترحيب بأي محاولة انشقاقية، على النحو الذي تعامل به نظام مبارك مع حزب الوسط، وكذلك من قبيل المحافظة على القيادات التنظيمية التي يمكن التعامل والتفاوض معها.
الإخوان والحركات الاحتجاجية
ألقى هذا الانقسام الذي تشهده الجماعة بين التيار الإصلاحي، تيار العمل العام، والتيار المحافظ، تيار التنظيم بظله على موقف الجماعة من الحركات الاحتجاجية التي شهدتها مصر على سوء الحالة الاقتصادية وانسداد أفق العملية السياسية وتصاعد هذه الحركات التي يصعب تتبع "المستوى السياسي" فيها عام 2008، مع الدعوة إلى إضرابات عامة وصلت إلى حد التمرد على سلطة الدولة كما حدث في المحلة الكبرى. انفجرت الحركات الاحتجاجية في مصر في الوقت الذي كيلت فيه ضربات للتيار الإصلاحي داخل الجماعة، وتزايد قبضة التنظيميين، وبينما كان يرى الإصلاحيون إمكانية التلاحم مع هذه الحركات وربما ركوبها لممارسة مزيد من الضغط على النظام الذي سد أفق الحراك السياسي، ربط المحافظون المشاركة بإصلاح سياسي أوسع كلياني تحقق من ورائه الجماعة مكاسب حقيقة، وهو ما لم تكن توفره الحركات الاحتجاجية، وبالتالي لم تستطع الجماعة الالتحام مع مطالب الشارع ورغم قوتها وحضورها لم تكن جزءاً من التيار العام، وربما كان مبعث هذا استعلاء إخواني على مطالب بسيطة لا تراها الجماعة مطالب سياسية حقيقية، وربما جعلت المسحة اليسارية التي صبغت الحركات الاحتجاجية الجماعة تعف الاقتراب منها نظرًا لخصومة أيديولوجية. الأخطر من هذا أن هذا الموقف السلبي للجماعة قد عكس افتقادها لرؤية ميكانزمات التغيير الجديدة في المجتمع المصري والتي لا تخضع لحساب القوى التقليدية بل تتجاوزها، كما أن الجماعة كانت جزءاً من تكوين مشروع الدولة المصرية والتي لم يلق تحولها الاقتصادي والاجتماعي نحو النيوليبرالية إلا الترحيب من الجماعة التي أفادت من هذه التحولات، ويضرب تمام هنا مثالاً في تأييد الإخوان لقانون الإيجارات الزراعية الجديد الذي أتى على البقية الباقية من إرث الإصلاح الزراعي الذي دشنه جمال عبد الناصر.
يقول تمام إن الإرث المحافظ للجماعة قد حدد وجهة تعاملها مع الحركات الاحتجاجية الجديدة والتي لم تكن ثورة يناير إلا تتويجاً لها، ولهذا بقيت الجماعة في البداية بمنأى عن المشهد، ولم تلحق بركاب الثورة إلا متأخراً. والحال أن الثورة قد جاءت والجماعة قد سيطر عليها تيار التنظيم وتوارى التيار الإصلاحي (بعد هزائمه في انتخابات مجلس شورى الجماعة وأعضاء مكتب الإرشاد أعوام 2008، 2009، 2010)، ونظراً لغياب الرؤية الصحيحة لدى قادتها فيما يتعلق بطبيعة الحركة الجديدة في الشارع، فسرعان ما اختارت قيادتها سبل التوافقق مع النظام الذي شاركها أيضاً في عدم فهمه لطبيعة الحركة التي تغيب عنها القيادة والتنظيم وتحكمها العفوية، ولم يكن هذا موقف الجماعة وحدها بل أيضاً بقية القوى السياسية التقليدية التي سارعت أيضاً بالتفاوض مع النظام. ومع فشل التفاوض وانتصار الميدان ومطلبه بإسقاط رأس النظام، لم تتعامل القيادة المحافظة للجماعة مع الواقع بمنطق الثورة الذي تعافه نظراً لطبيعتها المحافظة، بل أخذت تبحث للجماعة عن مكان في النظام الذي خالته جديداً ولم تسع لتغيير أي من قواعده، وبالتالي أصبحت الجماعة أقرب إلى خط السلطة كما يمثله المجلس العسكري الحاكم، وهو ما أوحى بشهر عسل طويل الأمد بين الطرفين في مواجهات قوى الثورة. ورغم وجود انشقاقات في الجماعة كان أبرزها الخروج التاريخي لعبد المنعم أبو الفتوح الوجه الإصلاحي الأبرز، غير أن الجماعة حافظت على تماسكها، بل أن هذا التماسك عززه الشعور بالمهداوية والاقتراب من التمكين بعد رحلة ثمانين عاماً من النضال، لم تسع الجماعة إلى أي تغيير في بنية تكوينها أو فكرها، والأحرى بنا القول أنها لم تكن في حاجة لهذا بعدما انتشت بدوى الانتصارات بداية من الاستفتاء الموصوف الآن بالمشؤوم ونهاية بمعركة الرئاسيات، وبقيت الجماعة ترسخ من بنيتها التي تحيلها إلى طائفة ممتدة الأذرع وموازية للدولة وإن كانت أقل منها.
يتناول تمام ظاهرتين عززتا من "طائفية الإخوان" الأولى هي الترييف، والثانية هي التسلف.
ترييف الإخوان
"جماعة الإخوان المسلمين جماعة مدينية حضرية، وظل الريف عصيّاً عليها" هذه المقولة نالها كثير من التغيير بعدما أصبحت الجماعة أسيرة للترييف أي زيادة نفوذ المكون الريفي بداخلها وترصد هذه الدراسة أثر هذا التمدد على الثقافة التنظيمية والبنية المؤسسة التي قامت عليها الحركة. وقد مثلت الهجرة الريفية إلى المدن المعين الخصب للجماعة من حيث التعبئة والتجنيد والتنظيم، وظل الريف يمثل حالة القيم الأصيلة المعبرة الهوية الحقيقية للمجتمع الذي سعت الجماعة إلى إصلاحه، وكان ظهور الجماعة سعياً نحو إصلاح الخلل بين الحداثة والتقليد، واعتمدت الجماعة في تكوينها الأصيل على طبقة وسطى مدينة في مواجهة النخبة الأرستقراطية المسيطرة على الحياة السياسية. وشهدت الستينات تعثر مشروع التحديث الناصري وهو ما أدى إلى الدخول في أزمات التنمية التي كانت تزايد الهجرة الريفية إلى الحضر أحد عناوينها، وهي الفترة نفسها التي شهدت التأسيس الثاني للجماعية واتجاهها نحو التركيز على التنظيم ومده، فاستقطبت الجماعة هؤلاء القادمين من الريف، ووفرت لهم ملاذاً في مواجهة واقع حضري يسبب لهم حالة من الاغتراب على أثر التحديث السريع، وفي هذا الصدد يرى تمام أن أهم ما بقي دافعاً للالتحاق بالجماعة هو جاذبية كونها تصلح كإطار اجتماعي حاضن للفرد وحماية لهم في عالم يشعر فيه بالغربة، ومن ثم تحولت التركيبة الداخلية للإخوان لصالح المنحدرين من أصول ريفية، فيما جرى استبعاد رمز السبعينات الذين قادوا مرحلة العمل العام ، وقد ظهر هذا الترييف في انتخابات مكتب الإرشاد الذي أعطى وزناً أكبر للمحافظات الريفية على حساب محافظات مدينية، وقد فعلت القيادة الإخوانية هذا والتي يعبر عنها تيار التنظيم استجابة لما جرى من ترييف ويصب في مصلحة هذا التيار الذي يغلب السمع والطاعة.
هذا الترييف له انعكاسات في ثقافة الجماعة، حيث سادت ثقافة ريفية تتوسل قيم الأبوية والإذعان التنظيمي والطاعة المطلقة وانتشار ثقافة الثواب والعقاب والتخويف وأيضاً التماثل والتشابه لدرجة التنميط بين الأفراد المنتمين للجماعة، وارتبط بهذا ظهور شللية أقرب إلى العصبيات التقليدية وتهميش للقواعد واللوائح التي بني عليها التنظيم لصالح مجتمعات النميمة، ولم يعد من المهم أن تجرى الانتخابات عى أسس وقواعد بقدر أن تكون هناك احترام للقيادة ووجوب للثقة فيها، كما أن هذا الترييف قد ارتبط في أحد جوانبه بتغليب المكون السلفي للجماعة، وقد ولى عنها عصر أفندية البنا.
الإخوان وصعود السلفية
شهدت مرحلة ما قبل الثورة اتجاهاً لدى الإخوان نحو النظر في قضايا فقهية لم تكن مطروحة من قبل ضمن أطروحة الجماعة، ظهرت هذه القضايا في وضع البرنامج الإصلاحي وهي متعلقة بولاية المرأة والذمي والرقابة الشرعية على التشريع، وغيرها، يقول تمام إن مناقشة هذه القضايا لم تكن إلا دلالة على اتجاه لاجماعة نحو التسلف، وهو ما يعبر عن تآكل الأطروحة الأصلية للإخوان التي وضعها البنا. ويوضح أن هذا التسلف بدأ على مراحل، فبعد أن كانت الجماعة سلفية بالمفهوم الذي يعتبر امتداداً للسلفية المستنيرة التي عبر عنها الإمام محمد عبده ورشيد رضا، وقد سيطرت على الجماعة في البداية نزعة صوفية واضحة تناسبت مع أهداف الدعوة والتربية ولمست الحس الديني الشعبي، بدأت أولى مراحل التسلف بتأثير السلفية الوهابية على القيادات التي هاجرت إلى الخليج والعربية السعودية عقب الضربات الناصرية (1954-1965)، ثم تلاقى تسلف قواعد الجماعة مع اختراق الوهابية للتدين المصري، واتجاه المجتمع نحوم مزيد من التسلف مع فتح باب الهجرة إثر سياسات الانفتاح الساداتية ثم عودة العوائل التي هاجرت وتأثرت بالوهابية إلى مصر، وقد التقت السلفية آنذاك مع الفكرة القطبية لتخرج عنها سلفية جهادية استباحت العمل المسلح ضد الدولة، فيما استوعبت الجماعة النزوع السلفي واستجابت له ليسود في الثمانينيات جيل من الإخوان السلفيين، وبقيت هذه السلفية كامنة تخضع لحركة مد وجزر فرضتها طبيعة السياق المصري ثم طبيعة الإخوان الباحثين عن هوية تميزهم عن غيرهم، ومع تزايد تدين المجتمع وزيادة الطلب على الدين تماهت القاعدة الإخوانية مع الأطروحة السلفية وصارت أكثر ميلا للمحافظة، وحرصت الجماعة عى أن تضم بين جنباتها الممتدة أعلام للحركة السلفية، وأضحت السلفية رافدًا أصيلا إن لم يكن مهيمناً على الجماعة، كما أصبحت مصادر الدعوة والتثقيف تأتي من رموز سلفية وإخوانية مزدوجة.
وكما انعكس التسلف في تمظهرات ثقافية ودعوية للجماعة، انعكس أيضاً في عملية الفرز والترتيب الداخلي أي تنظيم الجماعة، وقد هيمن تيار التنظيم عليها وهذا التيار تتقاطع معه حالة عالية من التسلف وبقايا الأطروحة القطبية ، ومن هنا جاءت محاصرة الأفكار التي روجت للتيار الإصلاحي الداعي إلى الماركة في العمل العام والالتحام مع بقية القوى السياسية . ويؤكد تمام أن أهم ما تعبر عنه حالة التسلف الإخواني هو أن المنظمومة الإخوانية قد انتقلت عبر نصف قرن من الإطار التوفيقي الجامع إلى الإطار السلفي المهتم بالنقاء العقائدي وما يفرضه من حجاج وصدام، وهو ما يعني أن الإخوان الذين كانوا على تعايش مع الإرث الثقافي والديني للمجتمع أصبحوا على وشك القطيعة مع إرثهم هذا. ومن هنا شهدت الأطروحة الإخوانية عبر ثمانية عقود الانتقال من استعادة الهوية الإسلامية كما عبر عنها البنا، إلى الحديث عن الحاكمية في مواجهة الدولة والمجتمع كما عبرت عنها المرحلة القطبية إلى التركيز على الدفاع عن الأخلاق العامة من داخل مؤسسات النظام حتى انتهت إلى أرثوذكسية سلفية مفارقة للثقافة والمجتمع. وفيما اتجهت قيادة الجماعة منذ إعادة تأسيسها إلى تقوية التنظيم ونشرها داخل طبقات وشرائح اجتماعية مختلفة، أهملت أي تأسيس أيدلوجي، ووجدت في الأطروحات السلفية متكئاً لها يعوضها عن هذا الفقر في الاجتهاد الفكري.
الإخوان والجهاد
نشأت الحركة وداخلها ميول عسكريتارية جسدتها فرق الجوالة، ثم النظام الخاص الذي رغم مشاركتها في الجهاد في فلسطين عام 1948 تحت أعين الدولة، غير أنه سرعان ما أصبح خطراً عليها أدى إلى حل الجماعة للمرة الأولى ثم اغتيال مرشدها بعد تورطه في أعمال عنف واغتيالات سياسية في الداخل. ولم يكن نظام يوليو يقبل وجود مركز شرعي داخل الدولة يمارس العنف، فكان استئصال الجماعة التي ظلت جينات العنف بداخلها، ولم تكن الأطروحة القطبية إلا تنشيطاً لها وهو ما أدى إلى الحملة الثانية التي قادها نظام يوليو في 1965، ورغم نفي قادة التنظيم للأطروحة القطبية في رسالة "دعاة لا قضاة" غير أنها لم تنجح في القضاء على الجينات العنفية داخل الجماعة التي ظلت كامنة، ومع حماس التغيير المسلح الذي قادته الجماعات الجهادية التي قبلت الأطروحة القطبية كليّاً والذي تجسد في اعتيال السادات 1981، ثم تفجر المواجهة العنفية بين الدولة وهذه الجماعات حتى منتصف التسعينيات، فإن الجماعة قد اختارت أن تحسم رفضها لخيار العنف وأن تشارك في العملية السياسية السلمية وكانت المشاركة في انتخابات 1984 بالتحالف مع الوفد الليبرالي تدشيناً لها، وأطلق قيادي الجماعة صالح أبو دقيق في تلك الآونة تصريحاً شهيراً مفاده أن "الجماعة قد طلقت العنف بالتلاتة"، لتنحصر تأثيرات القطبية والنظام الخاص في هيمنة عقلية "التنظيم" على الجماعة التي طرحت نفسها كبديل إسلامي معتدل ورافض للعنف في مقابل الجهاديين، دون أن يعني هذا الطلاق مراجعة شاملة لموقف الجماعة من العنف وقضية الجهاد.
تتقاطع قضية الجهاد مع النزعة الأممية للجماعة، فهي تؤيد جهاد العدو الغازي لأرض الإسلام، دون أن يعني هذا مشاركتها في هذا الجهاد إلا بالدعم الخطابي وربما اللوجيستي الذي لم يكن في تجربة أفغانستان مثلا بعيداً عن أعين الدولة، دون أن تتورط فيه بشكل مباشر على نحو قد يدفعها إلى التورط مع الدولة كما حدث في قضايا "العائدين من أفغانستان" والعائدين من البوسنة. ويبدو اتساع الجماعة للتنوع الأيديولوجي بداخلها قادراً على امتصاص أي نزعة عنفيه، كما أن تمددها داخل المجتمع أفقيّاً ورأسيّاً ووجودها في بعض مؤسسات الدولة، مع قوة التنظيم والتماسك بداخلها، قادر على تحقيق هدفها الأساسي وهو البقاء والاستمرار، ويرتبط الموقف النهائي للجماعة من قضية الجهاد مرتبطاً بتطورات البيئة السياسية المحيطة وما تمنحه من فرص وإكرهات وكذلك بالتركيبة الداخلية التي تنتمي على تنوعها إلى طبقة وسطى تتسم بالحذر.
ربما ساهم انفتاح الأفق ما بعد الثوري أمام الإخوان في تكريس حالة السلمية أكثر ونبذ العنف كاستمرار لخيار الجماعة وتماشياً مع طبيعة الثورة السلمية، غير أن تغلغل الإخوان داخل مؤسسات الدولة قد يحدث انتقالا في السؤال المطروح فالدولة الأمنية الممارسة للعنف لازالت قائمة، فهل ستكون أداة الإخوان في ممارستهم للعنف باسم شرعية الدولة؟ قد يبدو هذا التساؤل غريباً ولكنه جائز خاصة أن الثورة لم تفلح في تغيير طبيعة الدولة أو لم تمتد إلى هذه المؤسسات التي كانت ممارستها السبب الرئيس في اشتعال الثورة، وهذه المؤسسات تتسم بالطبيعة الصماء فهي تعمل لصاحب السلطة، وربما إن حدث هذا ستكون مفارقة تاريخية أن تستخدم هذه الأجهزة لصالح من كانت تمارس عليهم قمعيتها.
الإخوان والدولة
جاءت ولادة الجماعة عقب إلغاء الخلافة باعتبارها الجامعة الأممية الإسلامية، وكثيراً ما بشر البنا بأستاذية العالم، وأخذ ينشئ فروعاً إقليمية للجماعة، ثم إنها كانت جزءاً من الحركة الوطنية المصرية المحلية، وهو ما جعلها تقف على الحافة بين الأممية والوطنية الدولتية. ورغم دخولها في صراع مع الدولة المصرية الملكية، غير أن تحالفها مع الضباط كان بداية المؤشر لدخولها في علاقة مع الدولة المصرية، ثم إن هذا التحالف انتهى إلى صراع كاد أن يستأصلها، نجح فيه نظام يوليو أن يستولى على المشروعية الدينية ويقضى على معارضة الجماعة، وأن يدمج المشروعية الدينة داخل المشروع التحديثي في الوقت الذي اختفى فيه الإخوان من على الساحة. وفي المرحلة القطبية للجماعة، قدم سيد قطب أطروحة أيديولوجية تنزع الشرعية لا المشروعية فقط عن الدولة، وتصمها بالجاهلية، وتضع مشروعاً موازيّاً لمشروع التحديث، يستهدف إقامة المجتمع الإسلامي ودولته الإسلامية، وكونت هذه الأطروحة ركناً راديكالياً داخل الجماعة يظل كامناً. ومع إعادة التنظيم في عهد السادات، عادت الجماعة لتتكامل مع الدولة من باب سد الفراغ الذي أخذت تتركه بانسحابها مع تطبيق الانفتاح والخصخصة، أفاد الإخوان من هذه الأجواء، ودخلت استثماراتهم في المجالات التي نفضت الدولة يدها عنها، بل راحت تدعم النزعة الاستهلاكية التي أحدثها الانفتاح، وعاد من هاجر منهم إلى الخليج ليساهم في بناء الجماعة اقتصادياً، غير أن إصرار الدولة على عدم إعطائها الحق القانوني في الوجودي رغم السماح لها بالتواجد، تركز أكثر على الحفاظ على البقاء، ودفعها الجيل الجديد المتكون من المنتمين إلى جيل السبيعنيات المنفتح على تجربة العمل الطلابي إلى المشاركة السياسية التي وضعتها في مواجهة مع النظام، ورغم هذا الانغماس الوطني ظلت النزعة الأممية كامنة وإن أخذت منحى أيديولوجيا وربما خطابيا، وظهر على السطح التنظيم الدولي للإخوان الذي تم تأسيسه عام 1982، ويجزم تمام أن جزءاً كبيراً من الإخوان لازالوا يفكرون بمنطق الخلافة الإسلامية ويتجاوزون حدود مصر حينما يتعلق الأمر بالقضايا الإسلامية خاصة فلسطين، ويستدعي هنا الإحراج الذي وقعت فيه الجماعة أثناء حرب 2008 على قطاع غزة في قضية حزب الله في مصر التي انحاز فيها الإخوان إلى حماس وحزب الله دون مراعاة لحساسية الأمن القومي المصري، وهو ما جعلها عرضة للتشكيك في وطنيتها.
ومع ذلك تبقى الجماعة وريث غير شرعي لتيار الدولتية المصرية الذي تشرب من القومية الناصرية، التي كان لها أبعادها وجذورها الدينية غير الخفية والمتقاطعة مع الجماعة، والمقصود بهذا الإرث هو مركزية الدولة في الفكرة الإخوانية التي يضعها ضمن الأيديولوجيات التحديثية التي تتصور الدولة باعتبارها أداة التحديث الكبرى التي إن تمت السيطرة على مفاصلها والتحكم بها، يمكن السيطرة على المجتمع وتحديثه، وهو ما جعل أولييفيه روا يقول إن الإخوان والإسلام السياسي عموماً قد تخلوا عن مشروع الدولة الإسلامية مقابلة أسلمة الدولة القائمة عبر الاستيلاء عليها. هذه المركزية الدولتية تتضح في الحجم الذي يوليه الإخوان للدولة برنامجهم الإصلاحي (2007) في الوقت الذي يضمر فيه حديث البرنامج نفسه عن حقوق الفرد، بل ويغيب عنه الحديث عن العقد الاجتماعي، وهو ما يعني أن الإخوان قد استبطنوا في تحالفهم وصراعهم مع الدولة ونظمها ميراث الممارسة السياسية القائم على الإقصاء.
الإخوان والنموذج
هناك مفارقات كبيرة تقف عند استدعاء النموذج التركي كأطروحة فعالة يمكن أن يحتذي بها الإخوان في علاقتهم بالدولة والنظام قبل وبعد الثورة، في الدراسة الأخيرة في الكتاب يرصد تمام هذه المفارقات التي تتسع كثيراً إذا ما قيست بأوجه الشبه بين الحالتين المصرية والتركية والتي لا تعدو الطبيعة السكانية المسلمة السنة الغالبة، والتحالف المؤقت الذي حدث بين الحركة التحررية (الكمالية في تركيا، والناصرية في مصر) وبين القوى الدينية. فبعد كيل النظام الناصري الضربات للإخوان، ثم عودتهم إلى العمل العام في السبعينيات مع الانفتاح والتعددية، بدأ الإخوان في التركيز على بناء التنظيم بعيداً عن الدولة ومن خلال التغلغل في المجتمع وسد الفراغات التي خلفتها الدول، وهو ما جعلهم يكونون شرعية موازية لشرعية وجودها، في الوقت الذي نمت فيه الحركة الإسلامية التركية وتحديداً المللي جورش ثم أحزاب أربكان المتتالية من خلال التعددية السياسية التي أقامها النظام العلماني، وبالتالي كانت شرعية وجود الإسلاميين الأتراك مرتبطة بالدولة التركية التي تبدو أولوية تتجاوز أولوية بقاء الحركة ووجودها أو أولوية الأممية الإسلامية التي لا تزال كامنة عند الإخوان على النحو الذي تم تبيانه في الدراسة السابقة، وفي الوقت الذي أفاد فيه الإسلاميون الأتراك من حرية التواجد في المجال الاقتصادي وقد استطاعوا المساهمة في إخراج تركيا من أزماتها الطاحنة أولا ثم المساهمة في بناء قاعدة اقتصادية قوية لها طبيعة إنتاجية، راح المال الإخواني المستفيد من الانفتاح في تغذية النزعة الاستهلاكية للمجتمع دون مساهمة حقيقة في حل أزماته الاقتصادية.
رغم كل هذه المفارقات وغيرها، يبدو الإخوان أقرب إلى نموذج الحركة الإسلامية التي قادها نجم الدين أربكان قبل خروجه من السلطة عقب الانقلاب الهادئ في 1997، ومع ذلك تبقى تجربة العدالة والتنمية هي محور الحديث ومناط الاستلهام في مصر. يؤكد تمام على أن العدالة والتنمية جاء إلى السلطة كتعبير عن توافق مصلحي اجتماعي واقتصادي يتجاوز "إسلامية الحزب" الغائمة، فمصالح رجال الأعمال والنافرين من الكمالية المتطرفة والمتضررين من الأزمة الاقتصادية، وأصحاب التوجه الأوروبي قد تجمعت مصالحهم عند عتبة الحزب. هذا في الوقت الذي نجح الإخوان في الولوج إلى البرلمان 2000، و2005، على خلفية إصابة القوى السياسية بالشلل وهو ما أدى إلى التشكك وهو ما أودى إلى علاقة شك ضمني وفقدانهم لأرصدة اجتماعية وسياسية وحقوقية، وبينما نأى الحزب عن أي مواجهة مع الدولة التركية، ووضع نفسه دون أي شبهة إسلاموية مع الأحزاب المحافظة وسعى للتوافق مع الأساس العلماني للدول ومن ثم فصل تمامًا بين الدعوي والسياسي، لا تبدو الجماعة قادرة على المساهمة في إصلاح النظام السياسي المصري لفشلها في هذا، وقد نقل الحزب معاركه مع الدولة الكمالية إلى الدائرة الحقوقية المتجاوزة للصراع بين النزعتين الإسلامية والعلمانية، في الوقت الذي يستدعي فيه الإخوان هذا الصراع الاستقطابي في كل صدام مع الدول. لا تستخلص هذه الورقة أي نتائج متعلقة بمدى صلاحية نموذج نجاح الحركة الإسلامية في تركيا لواقع الحركة الإسلامية في مصر خاصة الإخوان غير أنها ترصد المفارقات الضخمة بين النموذجين، من ثم تؤكد ضمناً أن النموذج التركي أبعد ما يكون عن إمكانية تنفيذه على يد الجماعة.